لماذا يجب أن نحب الصناعة

التطورات العنيفة التى يشهدها العالم من جوائح وصراعات وأزمات اقتصادية متلاحقة تتسارع بفعل سرعة تدفق المعلومات. والمآلات الحتمية للنظام الرأسمالى، الذى تعلمنا أنه يحمل فى طياته عناصر هدمه. تدلنا جميعا على حقيقة واحدة؛ أن تحقيق قدر من الاكتفاء الذاتى من المتطلبات الأساسية للشعوب لم يعد ترفا، بل هو ضرورة للبقاء.

تشير التقديرات إلى أنه اعتبارًا من أواخر عام 2003، كانت واحدة من كل خمس دول فى العالم فى حالة حرب، ناهيك عن الحرب العالمية على الإرهاب… هذا بالطبع يخلق حالة من عدم الأمان النظامى لجميع المتأثرين بشكل مباشر أو غير مباشر، والتى لا يمكن التعامل معها بشكل مناسب من خلال الأنظمة التقليدية للحماية الاجتماعية.

كذلك تتسبب تلك الحروب فى تعطّل حركة التجارة، واضطراب سلاسل الإمداد، وعدم أهمية الفوائض النقدية والثروات الخام غير المصنّعة فى إشباع حاجات المواطنين، إذ إنه لا يمكن استخدام تلك الثروات فى عمليات التبادل التجارى المعطّلة بفعل الأزمات، ولا بديل عن استغلالها محليا لإشباع الحاجات.

نظريا، تعتبر دول مجلس التعاون الخليجى من بين الدول الأكثر أمانًا للغذاء وفقًا لمؤشر الأمن الغذائى العالمى، والذى يأخذ فى الاعتبار مدى توافر الإمدادات الغذائية والقدرة على تحمل تكاليفها وجودتها وسلامتها. وعلى الرغم من ذلك، تفتقر المنطقة إلى السيطرة على مصادرها الغذائية، وتظل معتمدة بشكل كبير على الاستيراد.

تستورد دول مجلس التعاون الخليجى حوالى 85٪ من غذائها، وتشكل واردات الأرز تقريبًا كل الاستهلاك، وحوالى 93٪ من الحبوب، و62٪ من اللحوم و56٪ من الخضراوات. من الطبيعى أثناء حدوث اضطراب فى سلاسل التوريد، نتيجة الأوبئة والظروف الجيوسياسية، فإن هذا الاعتماد على الواردات يترك البلدان عرضة للأزمات الغذائية.

ليس الإنتاج الزراعى فحسب هو المسئول عن تحقيق الأمن الغذائى، بل إن الصناعات الغذائية وصناعة الأسمدة والصناعات الهندسية المرتبطة بالميكنة الزراعية وشبكات الرى… كلها أيضا يساهم عدم توطينها (ولو إقليميا) فى انخفاض مستوى الأمن الغذائى، والأمن الاقتصادى بصفة عامة.

یؤدى عدم استغلال الثروات والموارد الطبیعیة، وفقدان العدالة فى توزيع عائداتها على المجتمع، إلى إضعاف الوضع الاقتصادى للدولة، ویشیر إلى تدنى قدراتها الاستراتيجية والسیاسیة والاقتصادية. وثمة دول لم تستغل ثرواتها على الرغم من حاجتها الماسة إلیها.

وقد أشار تقریر الأمم المتحدة للعام 2009 إلى أن الثروة النفطية لدى بعض البلدان العربية تعطى صورة مضللة عن الأوضاع الاقتصادية لهذه البلدان، لأنها تخفى مواطن الضعف البنيوى فى العديد من الاقتصادات العربية، وما ینجم عنها من زعزعة الأمن الاقتصادى للدول والمواطنين.

لا أمل من تكرار الحديث عن تلك المشاهد التى لا أنساها، فقد كنت حريصا على استطلاع رأى وزراء صناعة سابقين عن رأيهم فى أكبر تحديات الصناعة، وقد كان اتفاقهم غريبا فى أن الدولة لم تكن تحب الصناعة! علما بأنهم قد عملوا تحت قيادات مختلفة وفى ظروف متباينة. تفسيرهم لهذا يأتى من منطلق تفضيل كثير من الحكومات التى عملوا فى ظلها للمكسب السريع، علما بأن الصناعة ليست نشاطا سريع الربحية، بل هى نشاط يحقق التنمية المستدامة ويضمن التشغيل والاستقرار المجتمعى، ويعزز من فرص تحقيق الاكتفاء الذاتى والإحلال محل الصادرات والتوجّه للتصدير.

ولا يمكن أن يتحقق الأمن الاقتصادى والضمان الاجتماعى دون النجاح فى تحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة من خلال: توطين وتعميق الإنتاج الزراعى والصناعى، وتحسين مستويات المعيشة والارتقاء بنوعية حياة الناس، وتوفير فرص العمل وضمان المساواة فى الوصول إلى الوظائف والدخول، وإيجاد نظم وشبكات فعالة للضمان الاقتصادى والتكافل الاجتماعى، وتنمية مهارات قوة العمل بالتدريب والتأهيل المستمر حتى تستطيع هذه القوة مواكبة أى تطور فى اقتصاد الدولة.


الشروق

Twitter
Facebook

المزيد

Ezz-780-1
kuwit-steel3
mih-1