محمد كركوتي
كانت كل التوقعات الآتية من المؤسسات الدولية مطلع العام الجاري، قاتمة بشأن الاقتصاد العالمي، ولا تزال أجواء عدم التفاؤل ماثلة على الساحة بصورة أو أخرى، نتيجة الضغوط التي يتعرض لها هذا الاقتصاد، والمسببات الأخرى، سواء تلك التي ترتبط بالمعارك التجارية، والحرب الدائرة حاليا في أوكرانيا، وارتفاع أسعار الغذاء والطاقة، واضطراب سلاسل التوريد. فضلا عن التداعيات التي تركتها جائحة كورونا على الساحة الاقتصادية الدولية عموما، التي لن تختفي قبل عدة أعوام مقبلة. والحق، أن العام الماضي كان من أصعب الأعوام بالنسبة إلى الاقتصاد العالمي، وترى كريستالينا جورجييفا رئيسة صندوق النقد أن العام الحالي سيكون أصعب رغم بعض المؤشرات الإيجابية التي ظهرت في الفترة القصيرة الماضية.
لا شك أن تراجع نشاط اقتصادات كبرى، يسهم مباشرة في المصاعب عموما، خصوصا إذا ما صدقت التوقعات بدخول ما يقرب من ثلث الاقتصاد العالمي في دائرة الركود نهاية العام الجاري. لكن المؤشرات المتواضعة تبرز على الساحة بشأن النمو، حيث يعتقد أن هذا الاقتصاد سيحقق نموا في العام الحالي يصل إلى 2.3 في المائة، بزيادة 0.4 في المائة على التوقعات التي أطلقت أواخر العام الماضي. اللافت، أن هذه النسبة أقل من معدل النمو في 2024 حيث من المتوقع أن يسجل 2.5 في المائة، وفق تقرير حديث صادر عن الأمم المتحدة. وفي كل الأحوال، يبقى مستوى النمو لهذا العام والعام المقبل أقل من مستواه في العقدين السابقين لانفجار جائحة كورونا، حيث وصل النمو فيهما إلى 3.1 في المائة.
ولا شك أن هذه الجائحة نالت من الاقتصاد العالمي كثيرا، ليس على ساحات الدول النامية أو تلك التي توصف بالأشد فقرا، بل في ميادين الدول المتقدمة، التي ارتفعت فيها مستويات الفقر حتى في الطبقات المتوسطة. فضلا عن الإنفاق “القسري” للحكومات من أجل مواجهة الخسائر الناجمة عن كورونا، سواء على صعيد الأعمال أو الحياة المعيشية للأفراد. ورغم التفاوت في التوقعات بين المنظمة الدولية وصندوق النقد الدولي، إلا أن الفوارق تبدو بسيطة، ولا سيما أن هذا الأخير بدأ تعديل توقعاته نحو الأسفل وليس الأعلى، متماشيا بصورة أو أخرى مع توقعات البنك الدولي، وإن رفع الأخير من توقعاته بشكل متواضع جدا، بسبب “المرونة” التي أبداها الاقتصاد الأمريكي، وغيره من الاقتصادات المتقدمة الكبرى.
وهذه النقطة مهمة للغاية، إذا ما أخذنا في الحسبان أن أكبر اقتصاد في العالم، تمكن “حتى الآن على الأقل” من البقاء خارج نطاق الركود، وإن شهد تباطؤا كبيرا في الأشهر القليلة الماضية. لكن يبقى الأمر مرتبطا بصورة أكبر بوتيرة نمو الاقتصاد الصيني، الذي يعد محركا تقليديا للنمو العالمي ككل، إلى جانب الهند. وتكاد التوقعات تجمع على أن الولايات المتحدة ستسجل نموا يبلغ 1.1 في المائة في العام الجاري ارتفاعا من 0.4 في المائة، وأن يحقق الاقتصاد الأوروبي الذي يعاني “هول” التضخم والفائدة المرتفعة نموا عند 0.9 في المائة مرتفعا من 0.2 في المائة. غير أن النمو في الصين سيدور حول 5.3 في المائة بنهاية العام الحالي. والنمو الأخير ليس مضمونا بحسب مؤشرات عدة صادرة من بكين، وكذلك آفاق ثاني أكبر اقتصاد في العالم.
وفي كل الأحوال، سيكون الاقتصاد العالمي في وضع مقبول نوعا ما إذا ما حقق نموا هذا العام بالحدود المتوقعة 2.3 في المائة، ما يعني أن المصاعب التي تمر بها الاقتصادات الوطنية ستشهد بعض التراجع في الأشهر القليلة المقبلة، رغم أن أخطار الموجة التضخمية لا تزال حاضرة على الساحة. ولعل “المرونة” التي تتم الإشارة إليها بين الحين والآخر للاقتصادات المتقدمة، يمكن أن تسهم في تثبيت هذا المستوى من النمو، خصوصا أن الحديث يدور حاليا في أوساط المؤسسات المختصة التابعة للأمم المتحدة، حول ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي العالمي الحقيقي إلى 2.1 في المائة، في حين كانت التوقعات تشير مطلع العام الحالي إلى 1.7 في المائة.
وبصرف النظر عن العوامل المساعدة على تحقيق النمو، تبقى الأعين مركزة على أداء الاقتصاد الصيني في الأشهر المتبقية من العام الجاري. والمؤشرات الواقعية تسير حاليا إلى أن النمو في هذا الاقتصاد لن يتجاوز الـ5 في المائة بأفضل الأحوال، في حين كانت الصين تتمتع بنمو شبه ثابت على مدى أعوام بلغ 7 في المائة. والمشكلة تبقى أيضا موجودة على ساحة الاقتصادات الأقل تقدما التي عانت كثيرا المؤثرات السلبية التي حدثت في الأعوام الثلاثة الماضية.
فالنمو فيها لن يتجاوز4.1 في المائة في العام الحالي، و5.2 في المائة في العام المقبل، وهذه النسب أقل بكثير من النمو المستهدف عند 7 في المائة. وفي كل الأحوال، ستبقى وضعية الاقتصاد العالمي مضطربة لفترة لن تكون قصيرة، وتحديدا حتى تهدأ الموجة التضخمية الحالية، وإلى أن تتم السيطرة على الديون الحكومية التي بلغت في بعض الدول أعلى كثيرا من حجم نواتجها المحلية الإجمالية.
المصدر : الاقتصادية